عندما يذهب أولاف شولتز المُستشار الألماني، ورئيس مجموعة السّبع التي تتزعّمها واشنطن إلى بكّين، ويطلب من رئيسها تشي جين بينغ مُمارسة علاقاته القويّة مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين لوقف الحرب في أوكرانيا، وتجنّب التّهديدات النوويّة، والانخِراط في مُحادثات السّلام، فهذا يعني، وللوهلةِ الأولى، أن التحالف الأوروبي الأمريكي في هذه الحرب بدأ يتفكّك، والإقرار “الأوّلي” بأنّ الانتِصار فيها، أيّ الحرب الأوكرانيّة، مَسألةٌ غايةٌ في الصّعوبة، إن لم تكن مُستحيلة.
المُستشار الألماني لا يُمكن أن يذهب إلى بكين دُونَ التّنسيق والتّشاور مع الإدارة الأمريكيّة والقِيادات الأوروبيّة الأخرى مُسبَقًا، فالتطوّرات الميدانيّة، وخاصَّةً بعد القصف الصّاروخي الروسي للبُنَى التحتيّة الأوكرانيّة في كييف العاصمة والمُدُن الأُخرى، وقطع إمدادات الماء والكهرباء والتّدفئة، ومنْع روسيا تصدير الحُبوب الأوكرانيّة من موانئ البحر الأسود ردًّا على قصف أُسطولها في شِبْه جزيرة القرم، كُل هذه التطوّرات تُجَدِّد التّأكيد بأنّ أمريكا ورّطت أوروبا، وأوكرانيا، بطبيعة الحال، في حربٍ لا يُمكن الانتِصار فيها، ويُمكن أن تقود إلى دَمارِ القارّة الأوروبيّة وأمنِها واقتِصادها واستِقرارها لسَنواتٍ وربّما لعُقودٍ قادمة.
دول الاتّحاد الأوروبي كانت وما زالت المُتَضَرِّر الأكبر من العُقوبات الأمريكيّة “الفاشِلة” على روسيا التي أعطت نتائج عكسيّة، وبِما يخدم الاقتِصاد الروسي، وألحقت أضرارًا كبيرةً بنظيره الأوروبي، أبرزها تفكّك هذا الاتّحاد، والعجْز عن اتّخاذ قرارات مُوحَّدة لمُواجهة النّقص في إمدادات الطّاقة وتعويضها من مَصادرٍ أُخرى، ووضْعِ سَقْفٍ مُوَحِّدٍ لأسعارها.
الدّول الأوروبيّة تبحث الآن عن سُلّمٍ للنّزول عن الشّجرة الأوكرانيّة، ولعَلّ اعتِذار الرئيس فولوديمير زيلينسكي وتقديمه ضمانات بعدم استِخدام ممر صادرات بلاده من الحُبوب لقصفِ أهدافٍ في الأراضي الروسيّة، والأسطول الروسي في شِبه جزيرة القِرم تحديدًا مُقابل رفْع الحظر عن صادرات بلاده من الحُبوب، هو أوّل تنازل مُهين في هذه الحرب، ولا نستبعد تنازلات أُخرى من الحجم الثّقيل فيما هو قادِمٌ من أيّام.
مِن المُفارقة أنّه وبينما تُجَمّد حُكومة بريطانيا الحليف الأوثق لأمريكا في الحرب الأوكرانيّة مُساعداتها للدّول الفقيرة في العالم لمُدّة عامين بسبب أوضاعها الاقتصاديّة المُتدهورة كأحد نتائج حماسها للحرب، وتمتنع الإدارة الأمريكيّة عن تخفيض أسعار غازها للأوروبيين، بل ترفعها أربع أضعاف، وقمحها لفُقراء إفريقيا والعالم، يُعلن الرئيس التركي رجب طيّب أردوغان في مُؤتمر صحافي اليوم (الجمعة) أن روسيا وتركيا قرّرتا تقديم حُبوبًا مجّانيّة إلى الدّول الإفريقيّة المُهَدَّدة بالمجاعة، وهذه قمّة الدبلوماسيّة الإنسانيّة.
وكشف الرئيس التركي أن نظيره الروسي بوتين تعهّد بتقديم 500 ألف طُن من القمح مجّانًا إلى كُل من جيبوتي والصّومال والسّودان وفي الأشهر القليلة المُقبلة بمُساعدة تركيا التي تربطها علاقات وثيقة بهذه الدّول، وهذا الكشف سيُشَكّل إحراجًا وصدمة كبيرة لأمريكا وحُلفائها في الغرب، ويُجَنّد العالم الثّالث إلى الجانب الروسي في هذه الحرب الأوكرانيّة بالتّالي”.
العقيد الأمريكي المُتقاعد دوغلاس ماكريغور أكّد في مقالٍ نشره في مجلّة “المُحافظ الأمريكي” يوم أمس، أكّد فيه، وهو الخبير العسكري”أن حلف الناتو لن يكون قادِرًا على هزيمة الجيش الروسي، وعلى بايدن أن لا يرتكب أخطاء نابليون في روسيا، ولا ينبغي أيضًا على أمريكا وحُلفائها الأوروبيين التّقليل من شَأنِ القِوى العسكريّة لروسيا، وتجنّب التدخّل في الحرب الأوكرانيّة”.
وقال العقيد ماكريغور “عندما بدأ نابليون حملته لغزو روسيا عام 1812، قادَ أكبر تحالف للرّاغبين في التّاريخ ضم 400 ألف جُندي من إيطاليا وهولندا وألمانيا وبولندا علاوةً على الجيش الفرنسي الجرّار، ومع ذلك لحق بهذا الجيش هزيمة كُبرى، وكانَ أكبر خطأ ارتكبه نابليون ليس سُوء تقدير قُدرة خصمه، وإنّما أيضًا سُوء تقدير قُوّة حُلفائه”.
لا نعتقد أن الرئيس بايدن سيستمع لنصيحة الكولونيل ماكرويغور، لأنّه لم يَقُد حملة لغزو روسيا حتّى الآن، بل لم يُرسِل جُنديًّا أمريكيًّا واحِدًا إلى حرب أوكرانيا، وورّط الأوروبيين في هذه الحرب التي ستنتهي بدمار قارّتهم وإفلاسهم، وموت نسبة كبيرة من شُعوبهم تجميدًا بسبب الشّتاء القارس.. والأيّام بيننا.