مفهوم القلق عند مارتن هايدغر/مقال فلسفي
تقديم:
يتناولُ هذا المقالُ موضوعةَ القلقِ من وجهةِ نظرِ مارتن هايدغر. ولن نختلف، فيما أعتقد، حول الأهمية الجوهرية لهذه الموضوعةِ عند فيلسوف الكينونة. فالكينونة لا تكون حرَّة وشفافة إلا بالانفصال التَّام عن اِنفــ. عالاتها وإحساساتها، عن تصوراتها ومعتقداتها، والنَّظر إليها من فوق. هذه مهمة عسيرة، لكنها ليست مستحيلة. إن غائية القلق هي تحقيق الوعي بالذات؛ إذ إنَّ الحرية التي تطمح إليها الكينونة ليس بالإمكان تحصيلها ما لم تعش تجربة الشعور بالقلق. فالقلق ليس مرادفاً لليأس -كما يفهم عادة- بل هو مرادف للفرح بالوجود؛ ذلك لأنه ينقل الكينونة من الابتذال إلى الأصالة. دافعاً إياها إلى التَّفكير في نفسها، وفي علاقتها بأشياء العالم الخارجي، فإذا بها تحدس إلى أن العالم وما فيه محكومٌ عليه بالتَّلاشي والاندثار، وهي كذلك محكومٌ عليها بـ»التناهي.« هذا الحدس يمنع أي تعلق وجداني لا بالتقنية، ولا بالآخرين، ولا بالعالم -أي كل ما من شأنه أن يجعل الكينونة مستـ . عــ. ـبدة وغير حرة. لذلك، كانت الحرية التي يفضي إليها القلق هي ما نصل إليه بعد مجا هــ. ـدة ومكابدة، واِرتداد إلى الكينونة والوجود وإطالة التفكير فيهما ومحاولة ُ تفسيرهما ميتافيزيقياً.
الميتافيزيقا نداء مستمر:
تعدُّ رسالة هايدغر، ما الميتافيزيقا؟، من بين الرسائل الأولى التي افتتح بها أولى محاضراته بجامعة فريبورج في 24 يوليوز سنة 1929، بمناسبة تعيينه أستاذاً بها خلفاً لهوسرل الذي كان يبلغ السبعين من عمره آنذاك. وقد تضمنت هذه الرسالة تساؤلاً عن العدم، وشرحاً دقيقاً مختصراً لمفهوم القلق، وبياناً باهراً ذكياً لصلة العدم بالسلب، بالنفي، وانتصاراً مبطَّناً للميتافيزيقا. يقول: “لا يعادل إحكام أي علم رصانة الميتافيزيقا[1]”.
يعلن هيدغر أن العلم لا يتجاوز حدود ما هو موجود، ما يراه ويدركه. يقول: “ما يجب على البحث أن ينفذ فيه، هو، ببساطة، ما هو موجود- وخارجاً عنه – لا شيء: فقط ما هو موجود، وغير ذلك – لا شيء: حصراً، ما هو موجود وما بعده – لا شيء[2]”. فالعلم يختزل الموجود في جملة من العلاقات، في جملة من الصُّور، وبالتالي يلغي بطريقة سريَّة الحضور المباشر للفكرة/ للمثال في الذهن، وهو يستبعد من رقعته كل ما هو غير موجود. وهذه العبارة “غير موجود” لا تعني بالضرورة أن هذا الشيء الذي يتحاشاه العلم ويعرض عنه بنفيه إياه “غير موجود” قطعاً، بل فقط لا يعرف عنه شيئاً، لذلك لا يفكّر فيه كشيء موجود. يقول: “إننا نعرفه بقدر ما لا نريد أن نعرف عنه شيئاً، ولا أن نعرف أي شيء عن هذا اللاشيء[3]”.
إن العلم يرفض العدمَ، بدعوى أنه لا شيء. وهذا اللاشيء هو جوهر العدم. إن هذا الرفض للعدم، عدم قبوله كشيء ثاوٍ في العالم، هو في حدّ ذاته دليل على وجوده، فهو لا يوجد كما توجد الموجودات الأخرى، وإنما يوجد على نحو خاص، خاصّ به هو كعدم، شيء يتوافق كلياً مع ما هو كذلك.
إن العدم يتخلل حياتنا اليومية، فكل سلوك يصدر عن الكينونة هو سلوك مُـ . عــ. ـدِمٌ، لكننا نَغْفُلُ عنه بانغماسنا الكلي في كهف الحياة الحالك. يقول: “إن العدم […] محجوب عنّا. بماذا هو محجوب عنَّا إذاً؟ بواقع كوننا، بطريقة محدّدة أو بأخرى، نكرّس أنفسنا كليّاً للموجود[4]”. فـالعدم يلاحقنا، وهو معنا أينما كنّا. إنه يحملنا ونحن نحمله. وقولنا هذا يتفتَّح عن حقيقة مفادها: أن العلم لا يمكنه أن يغضَّ الطَّرف عن العدم. وينتج عن هذه الحقيقة حقيقة أخرى: أن فهمه، أعني العلم، للواقع – الإنساني رهينٌ بإبقائه على العدم.
إن العلم، حسب هايدغر، غير متماسك لأنه نسي أصله، نسي الميتافيزيقا. فالـعلم جزء من الشّجرة العامة التي تشكّل الميتافيزيقا أصلها. فـ”الميتافيزيقا، يقول هايدغر، تؤلف طبيعة الإنسان[5]”. من هنا نبسط السؤال: هل من الممكن أن يستعيد العلم مهمَّته، وبالتالي تماسكه؟ يجيب هايدغر: “يمكن للعلم أن يستعيد مهمّته الأساسية، بشرط وحيد هو أن يوجد العلم من الميتافيزيقا، هذه المهمة لا تقوم على تنظيم مجموعات، وتصنيف معارف، بل على أن يشرّع، بوحي دائم التجدّد، على مصراعيه، المدى الكّلي لحقيقة الطبيعة والتاريخ[6]”.
إن الطبيعة المعقدة للكينونة- في- العالم مستعصية على الفهم. لا الإحاطة بها ولا حصرها ممكنان. والسبب يعود إلى كونها دائمة الانفتاح، الانفتاح على اللانهاية، وهذا ما يجعل من انفلاتها من تَحْتِ اليد قدراً لا محيد عنه.
ومع ذلك، فإن تحقيق جزء ضئيل من الفهم يتطلب الإنصات الجيد للعلم والميتافيزيقا معاً. إن العلم، كما أشرنا آنفاً، قال كلمته. أما الميتافيزيقا فإنها سوف تقول كلمة الفصل الآن، كلمة الفصل في مسألة العدم. ولن يكون الحظُّ حليفاً للعدم في التجلّي إلا بوجود عاطفة صنعت من مادَّة كاشفة هي عاطفة القلق، عندئذ لن “يعود العدم النقيضَ غير المحدَّد إزاء الموجود، ولكنَّه يظهر كمنشئ لكينونة هذا الموجود[7]”. فـالقلق إذاً أصلي في الوجود، ومحال أن نقول مع دونس سكوت أنَّ الوجود يزداد اتضاحاً بواسطة العدم إن اندثَرَ القلق. فالـقلق كمعنىً مُلْتَاطٌ بالكينونة، الكينونة حُبْلَى بهذا المعنى السامي، ولو فرضنا جدلاً أن الـقلق انتُزِعَ بعدما وجدَ لكان هناك نقصٌ في الكينونة، ولما استطاع العدم نفسه الظُّهور: إن العدم يكون في حضرة القلق.
القلق، الطابع الأصلي للوجود:
إن الـقلق، باعتباره وجدانـاً أساسياً من شأنه أن يفتح الكينونة بما هي كذلك على العالم، ويقوم بعزلها، انتشالها من عمق الانحطاط والعمومية التي تطبع ما هو يومي، ووضعها بطريقة مميزة أمام نفسها. إن الانشغال بـ “اليومي” يغيّب الحقيقة، حقيقتنا؛ هذا “اليومي” الذي يَحْجُبُ عنَّا ما هو أصيل فينا، ويتركنا عائمين في ما هو تــــ. ـا فه ومزيـ. ــف: إن المـ. ــزيف ينسينا وجودنا الأصلي، وجودنا المحض، ويحصرنا في بيت ضيّق لا أنوار فيه ولا أبواب ولا نوافذ. لذلك، فإن الـقلق الذي يطفو على سطح الكينونة في لحظات نادرة[8] له أن يرشدنا إلى كيفية اختيار أنفسنا وينقذنا من مصير لا رابطة بيننا وبينه، مصير مصطنع، مغـ. شـــ. ـوش. فالـقلق يوسّع نظر الكينونة لتدرك أنها حرَّة.
إن القلق يختلف جوهرياً عن الخوف؛ فـالخوف يرتبط دوماً بموضوع محدَّد، إذ يتدفق فينا إحساس بالخطـ . ر من هذا الشيء المحدَّد الذي هو موضوع خوفنا. يقول هيدغر: “ما أمامه يكون الخوف هو في كل مرَّة كائن داخل العالم[9]”؛ يضيف موضِّحاً: “إن التـ. هــ . ـديد الذي هو وحده يمكن أن يكون مخوفاً والذي يكشف عنه الخوف، إنما يأتي دوماً من كائن داخل العالم[10]”. إن الخوف هو باستمرار خوف من شيء ما محدَّد على شيء ما محدَّد داخل العالم، مما يعني أن الإنسان الخائف الذي يرتــ. ـجـــ. ـف من شدَّة الخوف يحسُّ بأن هذا الشيء الذي يخاف منه يقـ . يــ. ـده إلى درجة الغثيان، ولا يدع له فرصة للفــ. ـرار من قبـ. ضته الحديديَّة؛ فـالخوف ينشر جناحيه، جناحيه يَحْمِلانِ معنى الاضـ . ـطـــ. ـراب، اللَّذان يظلان الكائن ويعملان على حجب أشعَّة الشمس من النفاذ إلى أعماقه من أجل إعادة الطمأنينة المفقودة، فقدها وهو يحاول بكل ما له من قوَّة دفعَ هذا الخوف بعيداً، الخوف الذي خالطه وجعله “يفــ. ــقد صـــ. ـوابه[11]”.
إذا كانت هذه هي حالةُ الخوف، فإن حالةَ القلق لا تشبهها ولا تَمُتُّ لها بصلةِ قرابة. فـالقلق “هو دوماً (قلق أمام…)، ولكنه ليس أبداً قلقاً أمام هذا الشيء أو ذاك. فـالقلق (أمام…) هو دوماً قلق (على…)، ولكنه ليس قلقاً على هذا أو ذاك[12]”. فـالقلق غيرُ قابل للتحديد، وليس هناك ما يحدُّه بحدٍّ، فهو “الاستحالة الجوهرية في قبول أي تحديد[13]”. ففي غمرة القلق يُحَسُّ بالضّيقِ، لكننا عاجزون عجزاً كاملاً عن تبيّن مصْدرِ هذا الضَّيق الذي يبقى مجهولاً، مبهماً، بالنسبة إلينا ولغيرنا.
إن ما يشعرنا بالقلق، في حقيقة الأمر، هو العالم نفسه من حيث هو كذلك، أو هو بالأحرى الوجود- في- العالم. يقول: “إن ما يشعر المرء إزاءه بالقلق هو الوجود- في- العالم بما هو كذلك[14]”. ويقول أيضاً: “إن ما يشعر المرء إزاءه بالقلق هو شيء غير متعيّن تماماً. وهذا اللاتعين لا يحدد واقعياً ما هو الشيء الذي يتــ. هـ . دّدنا داخل العالم، وهو لا يقتصر على ذلك بل ينبئنا أيضاً بأن الأشياء الموجودة في العالم لا علاقة لها بالمسألة على الإطلاق، فلا شيء مما هو جاهز أمام أيدينا، أو حاضر أمامنا داخل العالم يقوم بمهمة الشيء الذي يقلق في مواجهته القلق[15]”.
وعلى ذلك، فنحن، يقيناً، لا نعرف ما الذي يجعلنا نقلق. فما يقلق عليه القلق هو الكينونة- في- العالم نفسها. ولسنا نستطيع أن نشيرَ إلى شيء بعينه، فما يجعل القلق ينشأ هو: لا شيء، وهو لا يوجد في مكان. إننا نحن أنفسنا نكون ملفوفين في هذا اللاشيء، في هذا اللاتعين، الذي يحاصرنا من جميع الجهات دون أن يوجد هو ذاته في جهة معيّنة. في القلق إذن يكون “العالم في عالميته هو وحده الذي مازال يفرض نفسه[16]”.
القلق يكشف عن العدم:
إن القلق يضع الكينونة، كينونتنا، في مـ . واجهة العدم. إن القلق يكشف العدم. كيف ذلك؟ لا ريب في أنَّ ما نقلق عليه في القلق، كما يُقِرُ هيدغر، هو الـعدم الماثل في النَّاس والأشياء، إذ نحسُّ في القلق بأننا نحن وكلّ النّاس والأشياء قد انزلقنا في هـــ. ـا وية أقلُّ ما يقال عنها أنَّها غامضة غير محدَّدة فتبدو لي في قمَّة الغرابة، لا أهتمُّ بها، ولا ألقي لها بالاً، إنَّها تنعدم بفعل العدم الذي يعدم دون انقطاع، إنها فقدت عندي كلَّ معنى، وأضحت خلواً من كل معنىً يثير الاهتمام. يقول: “إن القلق يبقينا معلقين هكذا، لأنه يحدث انزلاقاً للموجود بمجمله[17]”. يعني هذا “في عين الوقت ألا-يكون- المرء- في- بيته[18]”.
إن هذا العدم لا يبدو لي شيئاً يقف أمامي، ويعارض الوجود، بل يظهر لي أنه معطىً في قلب الوجود. يقول سارتر: “إذا أمكن أن يعطى عدم، فلن يكون ذلك قبل، ولا بعد الوجود، ولا خارج الوجود بوجه عام، بل في حِضْنِ الوجود وفي قلبه، كالحشرة في الفاكهة[19]”. إن العدم جزء من كيان الوجود ومن تصميمه، وهو شرط لتحقُّق الوجود وانكشافه، لأن العدم ينكشف لي في كل فعل من أفعال الوجود. يظهر لي في السلب، حينما أقول: هذا الكتاب ليس طاقيَّة؛ وفي إتيان فعل من الأفعال، لأن الفعل يقتضي اختيار وجهٍ واحد من أوجه الممكن وطرحِ سائر الممكنات. يقول: “إن جوهر الكينونة يتضمن […] العدم. ففي كينونة الموجود، يتم فعل تعــ. د يم العدم[20]”. هذا القول يفضي إلى أنَّ “تحقيق واقع- إنساني (Da-sein) يعني: الاحــ. تــ. جاز داخل العدم[21]”.يقول، مفسراً ما سوف يحدث إذا ما تحقق هذا الشَّرط، يقول: “وحين احــ. تــ. جــازه، يقصد الإنسان، داخل العدم، يبدأ مذ ذاك كل واقع- إنساني بالانبثاق خارج الموجود بمجمله. هذا الانبثاق خارج الموجود، هو ما نسميه التَّـ. عالي [22]”.بدون شرط التـ. عالي إذاً يظلُّ الواقع- الإنساني غير ممسك بذاته.
الكينونة- من- أجل- الموت:
إن الـقلق من شأنه أن يكشف عن الـوجود الأصـيل، الـوجود كـما هـو، للكـينونة. وذلك بالكشف عن مجموع إمكانـات هذه الكـينونة. ومن بين أكبر الإمكانات نَجِدُ إمكان الموت كإمكان مطلق، كإمكان نهائي، يتخطّى كل إمكان ولا يتخطّاه أيُّ إمكان. فـالموت هو آخر الممكنات جميعاً، هو الإمكان الذي يجعل بقيَّة الممكنات كلها، أيَّاً كان نوعها، غير ممكنة. فهو كما عبَّر هيدغر: “عدم إمكان أي وجود بشري على الإطلاق[23]”.
إن الموت هو حقيقة كل حي. كل موجود لا بد له من أن يموت. فالموت يجرد الآنية من كل شيء وكأنها لم تكن تملك شيء. فالإنسان يوجد في العالم ثمَّ يختفي منه كأنه لم يكن. إن البداية دليل قاطع على وجود النهاية. إن مشروع الإنسان الأصيل، حسب هيدغر، هو أن يكون كي يموت. إنَّ الكـينونة لا تستطيع أن تتجاوز هذه الإمكانية النهائية، إمكانية الموت.
لـيس الموت في نظر هيدغر مجرد فكرة تعبر عن الـخاتمة أو الانـتهاء، بل هو إمـكانية معاشـة تعبر عن فـعل الـتناهـي أو الانـتهاء. وهذا هو السبب في أن هيدغر لا يرى في الـموت عـرضاً أو حـادثاً يأتي إلينا من الخارج، بل هو يرى فيه أعلى إمكانية من إمكانيات الموجود البشري[24].
إن تفكير الـذات في الـموت، أو استباقها له عن طريق التصور، لهو الكفيل بعزلها عن الآخرين، وردها إلى باطن وجودها الحقّ. ومعنى هذا أن فـكرة الـموت تصرف الـذات عن التفكير في هـموم الحياة ومشاغلها، فتضعها وجها لوجه بإزاء وجودها الفردي الخاص.
يربط هيدغر بين الموت والهم، الهم هو نفسه ظاهرة معقدة، وهو ينشأ من التـ . وتر القائم بين انــ. دفاع الإمكان في المستقبل ووقائعية الموقف الذي يلقى فيه بالموجود، فضلاً عن سقوطه في العالم. إنَّ الهم هو الطابع الأصلي للوجود، ونقصد بالموجود هنا الآنية، فلا بد من أن نجد في الـهم هذه الخصائص الرئيسية الثلاث. ولهذا فإن الهم هو الوجود الذاتي- مع الإمكان- بالفعل- في العالم. فقولنا: “مع الإمكان” يعبر عن الإضمار والتصميم، وقولنا “بالفعل” يعبّر عن الـواقعية، وقولنا “في العالم” يعبّر عن السقوط. ويمكن للموت أن يفهم في علاقة بهذه اللحظات الثلاث للهم.
أولاً- فيما يتعلق بالإمكان والمستقبل، فإن الموت بوصفه الإمكان الأعلى للوجود البشري، فهو الإمكان الذي تخضع له جميع الإمكانات الأخرى، فجميع إمكاناتنا تنتشر، إن صحّ التعبير، في مواجهة الموت. وهناك ضـ . ر ب من التسلسل الهرمي للإمكانات ويشغل إمكان الـموت موضع السيادة[25].
ثانياً- إن الإمكان يتجه إلى المستقبل، إلى ما ليس قائماً بعد، في حين أن الوقائعية تهتم بما هو موجود “بالفعل”. ويكون الموجود البشري منذ بداية الحياة ذاتها في موقف الفناء، فهو يشيخ باستمرار لحد الموت. والموت هو أعظم المعطيات كلها صلابة في الموجود البشري. فالموت سيظل جزءاً من الوضع البشري الوقائعي.
ثالثاً- يتضمن الهم لحظة ثالثة هي الـسقوط أو الاستغراق في العالم الوسائلي وفي التجمع اللاشخصي للهم، ويظهر ذلك في الموقف اليومي تجاه الـموت الذي هو موقف فرار واجتناب[26]. يقول هيدغر: “إن الكينونة اليومية نحو الموت هي، من حيث هي منـ. حــ. ـطَّة، هروب مستمر أمامه[27]”.
يتبين لنا أن الوجود البشري هو بطبيعته وجود لفناء.
خاتمة:
نخلص إلى أن القلق يأخذ بجـ. مــ. ـاع الوجود، فهو الشعور الأنطولوجي الأوَّل، الذي ينبه الإنسان ويفتح عينيه على حقيقة وجوده. إنه يجعل درجةَ انتباهِ الموجود تتصاعد، بوتيرة عصيَّة على الوصف، إلى أن تصل ذروتها القصوى. هنا، وهنا فقط، تتلاشى جميع الأشياء الموجودة في العالم ويدرك الكائن البشري أنَّه لن يجد نفسه، لن يعثر على مجموعه، في العالم إلاَّ بِارْتِـ. دَا دِهِ إلى ذاته في حريته الفريدة. وهذا معنى قول هايدغر من أنَّ القلق يلقى بالإنسان في سَمْتِ وجوده الحر من أجل أصالة وجوده. فالقلق هو الطريق الملكي الذي يجد المرء نفسه بواسطته.
بقلم د. أيوب السعيدي
هامش:
[1] مارتن هيدغر، ما الميتافيزيقا؟، ترجمة أمال أبي سليمان، مركز الإنماء القومي، لبنان، مجلة العرب والفكر العالمي، العدد الرابع، 1988، ص 54
[2] مارتن هيدغر، مصدر سابق، ص 45
[3] مارتن هيدغر، مصدر سابق، ص 45
[4] مارتن هيدغر، مصدر سابق، ص 51
[5] مارتن هيدغر، مصدر سابق، ص 54
[6] مارتن هيدغر، مصدر سابق، ص 54
[7] مارتن هيدغر، مصدر سابق، ص 53
[8] مارتن هيدغر، مصدر سابق، ص 51
[9] مارتن هيدغر، الكينونة والزمان، ترجمة فتحي المسكيني، دار الكتاب الجديد المتحدة، الطبعة الأولى، 2012، ص 352
[10] مارتن هيدغر، الكينونة والزمان، ص 353
[11] مارتن هيدغر، ما الميتافيزيقا؟، ص 48
[12] مارتن هيدغر، مصدر سابق، ص 48
[13] مارتن هيدغر، مصدر سابق، ص 48
[14] جون ماكوري، الوجودية، ترجمة إمام عبد الفتاح إمام، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، 1982، ص 186
[15] جورج ماكوري، الوجودية، ص 186
[16] مارتن هيدغر، الكينونة والزمان، ص 354
[17] مارتن هيدغر، ما الميتافيزيقا؟، ص 48
[18] مارتن هيدغر، الكينونة والزمان، ص 357
[19] جان بول سارتر، الوجود والعدم، ترجمة عبد الرحمن بدوي، دار الآداب- بيروت، 1966، ص 76
[20] مارتن هيدغر، ما الميتافيزيقا؟، ص 50
[21] مارتن هيدغر، مصدر سابق، ص 50
[22] مارتن هيدغر، مصدر سابق، ص 50
[23] جون ماكوري، الوجودية، ص 216
[24] زكريا إبراهيم، دراسات في الفلسفة المعاصرة، دار مصر للطباعة، الطبعة الأولى، 1968، ص 412
[25] جون ماكوري، الوجودية، ص 215
[26] جون ماكوري، الوجودية، ص 217
[27] مارتن هيدغر، الكينونة والزمان، ص 457