رسالة من أم إلى القرضاوي…/ محمد اسحاق الكنتي
“الشيخ يوسف القرضاوي..
السلام عليكم ورحمة الله..
قرأت رسالتك المؤثرة إلى “فلذة كبدك، ومهجة قلبك، وثمرة فؤادك…”، فأسفت كثيرا لما تعانيه فضيلتك من حزن تبثه العالم طلبا للتعاطف مع سجينة “مظلومة”. تعاطفت مع ابنتك، ولم أشارك في ظلمها، فهل أجد لدى فضيلتك نفس الشعور تجاه ابنتي وقد كنت السبب في مأساتها؟؟؟
إليك الحكاية من البداية..”كنا أسرة من الطبقة الوسطى؛ نملك بيتا، وثلاث سيارات، وبعض المدخرات. زوجي طبيب ناجح يملك عيادة في حي راق، وأحمل شهادة الماجستير في التربية، تركت الوظيفة بعد أن أنجبت الأطفال، لتربيتهم. ابني الكبير محام في مكتب أختي زوجة الأخ الأكبر لزوجي، ابنتي رغد في السنة الأخيرة من كلية الطب، وابني الصغير، آخر العنقود في السنة الأولى من كلية الهندسة… انتسب زوجي، في شبابه لحركة الإخوان المسلمين، قضى سنوات في السجن ثم خرج ليكمل دراسته، ويقطع صلاته بالحركة… على ناصية الشارع المقابلة لبيتنا بيت الأخ الأكبر لزوجي؛ تاجر متوسط الدخل، ابنه البكر ضابط في الجيش، وابنته الصغرى خريجة كلية التجارة وخطيبة ابني الكبير منذ سنة. فقد انتظرنا حتى تتخرج ابنتي فنقيم العرسين في وقت واحد.. حددنا الموعد بين شهري سبتمبر وتشرين، واشترينا أغلب الحاجيات وبدأنا التشطيبات الأخيرة للشقتين فوق منزلنا ومنزلهم… كانت عائلتي مولعة ببرامج فضيلتكم، نجلس جميعا لنستمع للشريعة والحياة، ونتابع خطبكم ومحاضراتكم، ويحرص زوجي على شراء كتبكم، وما أكثرها!!! وبلغ ولعه بكم أن تمنى لو أنجب ولدا يسميه يوسف، فقلت مؤنبة..
– استح يا رجل..أفي هذا العمر!!
قال:- أي الولدين أنجب ولدا سأسميه يوسف…
لاحظت أنه استعاد علاقته بالتنظيم، وإن حرص على إخفاء الأمر عني.. صارحته..”نحن عائلة مستقرة، وقد جربت مصائب السياسة فلا تعد إليها.. في رقبتك امرأة وأطفال..” وعدني. لكنه لم يف. ثم جاء ربيعك، صاحب الفضيلة، فأصابتنا العدوى.. بدأ زوجي يحد من علاقاته مع أخيه عملا بفتواك في أعوان الظلمة، رغم أن شقيق زوجي لم يكن سوى تاجر يتعامل مع الحكومة مثلما يتعامل مع الأفراد، ولم يدخل ابنه الجيش إلا لتأمين وظيفة ومستقبل!!! لمح زوجي إلى فسخ الخطوبتين، أو تأجيل موعد الزواج على الأقل فاعتصر قلبي… بدأ والولدان يتأخران عن المنزل، وحين أسأل أتلقى إجابات غامضة… حتى كان ذلك اليوم المشؤوم.. لم يعودا إلى البيت. في الصباح رن الهاتف…
– السلام عليكم
– وعليكم السلام ورحمة الله
– معك أبو محمد، الجماعة يقرئونك وابنتك السلام، فقد التحقوا بالجهاد.. فلا تخافي ولا تحزني…
وانقطع الخط. بقيت للحظات متسمرة في مكاني، ثم انهرت على الكرسي… كيف سأشرح الأمر لابنتي!!! أظلمت الدنيا في عيني… فجأة سمعت قرعا على الباب. مسحت دموعي، ثم فتحت..
– خالتي..جئت أودعك، فقد استدعوني إلى الجبهة، هل يمكن أن أر رغد؟
ناديت ابنتي…
– ودعي ابن عمك… ذاهب إلى الجبهة..
لجأت إلى غرفة النوم، فبكيت، وبكيت حتى ترسبت الأملاح على خدي… كان علي أن أتدبر حياتي وحياة ابنتي اعتمادا على مدخراتي، ولم تكن حال أختي أحسن، فقد تعثرت تجارة زوجها بسبب الأحداث، لم أكن ألقاها إلا نادرا، حين نلتقي في الشارع فنتبادل التحية على عجل، فلم يعد يفصل بيننا شارع وإنما متاريس… أتى القصف على عيادة زوجي، واكتأبت ابنتي حين توقفت الدراسة في الجامعات.. كنت وإياها نقضي أغلب وقتنا أمام التلفاز نتابع الأخبار عبر قناة فضيلتك، فلا نكاد نتبادل الكلام… فجر انتحاري مجمع المحاكم فقتلت ابنة أختي خطيبة ابني التي كانت تزور أمها في مقر عملها. أما أختي فقد أصيبت بجروح بالغة فقدت بسببها ذراعها وعينها… ثم كانت المفاجأة فظهر زوجي… حين فتحت الباب لم أكد أتعرف عليه.. بدا شبحا من العصور الحجرية. أزاحني ودخل. ذهب مباشرة إلى غرفة النوم وأوصد الباب. سهرت في الصالون أنتظر.. خرج أخيرا في الهزيع الأخير. قال بصوت يخرج من أعماقه، مبحوحا رطبا..
– عندكم أكل؟
كان يلتهم الطعام كمن يؤدي واجب تنظيف الصحون.. تجشأ بصوت عال، ثم حمد الله بصوت خافت، وأجهش بالبكاء.. مسحت رأسه، فسرت في جسمه قشعريرة، ثم نظر إلي كأنه يحس بوجودي لأول مرة.. ثم تكلم بصعوبة..
– فظائع، فظائع! رأيت فظائع، شاركت في فظائع!!! بكى بحرقة. قال كأنما يخاطب غائبا…
– أطفال في عمر الزهور، شباب يافع تهال على جثثهم التراب في مقابر جماعية، تعذيب وإعدامات ميدانية.. كم نحن وحوش حين نركب التعصب والتطرف!!! فر زوجي، فضيلة الشيخ، من “المجاهدين”، وترك هناك “فلذة كبده ومهجة قلبه وثمرة فؤاده…” أخبرني أن ابننا الصغير ذو التسعة عشر عاما أصبح أمير فصيل. أما المحامي فقد هاجر إلى أوربا يهيج الحقوقيين ضد النظام، وآخر أخباره أنهHomelesse في إحدى العواصم الباردة… ذات يوم، فضيلة الشيخ المفجوع بابنته السجينة، جاءتني رسالة على الواتساب، وليتني لم أفتحها.. رأيت ابني يتلو حكم “المحكمة الشرعية” في حق ابن عمه الجاثي على ركبتيه مكبل اليدين، معصوب العينين في بدلة برتقالية… ثم كبر. وصلت الرسالة إلى ابنتي، فضيلة الشيخ.. لم تتحمل الصدمة ففقدت عقلها، وهي ترقد اليوم في مشفى الأمراض العقلية.. شل زوجي فجأة ففقد النطق. حصلت له على كرسي متحرك بشق النفس، وأعتمد على جمعيات إغاثة تزودني بدوائه… هُجر ما بقي من أختي مع زوجها فاحتلت بيتهما لحية كثة ونقاب… منذ أيام، اتصل بي “أبو محمد” ليبشرني.. “التحق ابنك بقافلة الشهداء.” وانقطع الخط…
فضيلة الشيخ.. هذا بعض حصاد فتاويكم، وتحريضكم على الثورة. مئات الآلاف ممن هم في سن أحفادك قتلوا، والمئات أصيبوا بعاهات مزمنة، مئات الآلاف في المنافي يعانون الجوع والبرد. أطفال بلا مدارس، ومرضى بلا مستشفيات، كل واحد منهم فضيلة الشيخ فلذة كبد، ومهجة قلب، وثمرة فؤاد!!!
رافعتم باقتدار فضيلة الشيخ عن ابنتكم، لكن قولكم..”ولا شاركت في مظاهرة ولا مغامرة…” أضحكني كثيرا رغم مساحة الألم من تونس إلى اليمن!!! هل أصبحتم فضيلة الشيخ ترون المظاهرات والمغامرات جرما تبرؤون كريمتكم منه!!! ولماذا تقاعست المصون عن السير في المظاهرات التي كنت تحرض بناتنا عليها!!!
يؤلم فضيلتكم مكوث ابنتكم في السجن “مائة يوم…” فكيف تواسي من قضى وحيدها تحت الأنقاض! وإذا كان يوم السجن “بسنة…” فكيف ترون ساعة الخوف من قناص مجهول، أو قذيفة طائشة، أو انتحاري مأجور.. كيف ترون سنوات اللاجئين في العراء، الماء من تحتهم والثلج من فوقهم، بلا وطن، بلا كرامة، بلا………..
تنتظر فضيلتكم الإفراج عن كريمتكم..”وتعودين وزوجك لأهلك وبيتك، سالمة غانمة…” فماذا تقول لابنتي التي لا أنتظر لها سوى الموت يريحها مما هي فيه!!!
أطلت عليك فضيلة الشيخ؛ فلكل منا مشاغله.. تنتظر، في قصرك المنيف، خبرا سارا عن ابنتك، وانتظر أنا الفجر لأنظف زوجي وأغير حفاظته، ثم أدلف من الباب الخلفي للسفارة أنظف المراحيض وأمسح المكاتب. في طريق العودة مساء أعرج على سوق الخردة علّي أبيع بعض الذكريات، ثم أمر على مصحة الأمراض العقلية ألقي نظرة على ابنتي وأسكب عليها عبرة…
فأينا أولى بالتعاطف، فضيلة الشيخ!!!
16أكتوبر 2017
ردا على رسالة الشيخ جزعا على سجن ابنته!