السفر إلى روصو 1960/ محمد فال بلال
استغرق سفرنا إلى روصو نحو يومين على متْن سفينة “ابن المقداد”. وهي سفينة أخذت إسمها من كبير المترجمين الفوريين (أملاژ) “ابن المقداد سيك” المعروف لدى الموريتانيين بأدبه وكرمه؛ سفينة في غاية الجمال و الأناقة. تم بناؤها عام 1954، وكانت توفر حتى 1970 نقل البضائع والركاب على نهر السنغال من “اندر” إلى “خايْ” مرورا بروصو – بوگي – كيهيدي – ماتام -بكّل .. كانت سفنٌ أخرى مثل “كرمور” و “سولاك” تمارس النقل على نفس الخط النهري ، ولكنّ “ابن المقداد” كانت هي الأفضل والأجمل والأكمل؛ سفينةٌ ضخمة من 3 أو 4 طوابق، تنبض بالحياة وتُوفر للركاب كلّ وسائل الراحة والاسترخاء …كنّا نتجول بداخلها. ولا تخطئ العين أشياء جميلة: براد على النار – شاي يصب – سكر يكسر – موائد وفواكه – ألعاب ترفيهية (السّيگ، اكرور، ظامه، مرياص، إلخ..). واستغرق سفرنا نحو يومين وليلة.
وصلتُ روصو في اكتوبر 1960، و وجدتها مدينة كبيرة و جميلة …لا مقارنة بينها وبين القرى التي مررتُ بها من قبل (ألاك ، بوكي ، كيهيدي ، امبود ، سيلبابي) مع أن النمط المعماري المُعتمد على طول النهر متشابهٌ جدا… مباني من الاسمنت المُسلح مُسقفة بصحائف حمراء، ربما للتأقلم مع ظروف الطقس و المناخ في “شمامه” حيثُ الحرارة، و الرطوبة، و كثرة الأمطار…و فور وصولنا روصو ، ركبتُ “حافلة ليسه” (T45) مع السائق “سيدبي”. لم تأخذ الرحلة سوى 10 دقائق، بعدها وطأتْ قدماي أرض ”ليسي كبولاني”! كان الجو معتدلا و رطبا. و العمارات شاهقة (معظمها من طابقين)، بيضاء و نظيفة. و الطرق معبدة، و الماء في الحنفيات، و شبكات الصرف الصحّي موجودة، و الكهرباء لا تنقطع، و الفصول مجهزة بأحسن المقاعد و الطاولات، و المهجع يوفر أجمل الأسِرة، والمطعم جميل، والمبنى الإداري نظيف، والمستوصف بسعة 5 أسِرة، ومساكن الأساتذة، وحديقة المرحوم سيدي المختار انچاي، وملاعب رياضية متعددة: كرة القدم، وكرة السلة، والكرة الطائرة، و ألعاب القوى بجميع تخصصاتها، وقاعة سينما، وقاعة للأنشطة الثقافية: ندوات، ومحاضرات، ومسرح، إلخ.. وصلنا المدرسة وشرعنا فورا في تحضير الاحتفال بعيد الاستقلال بحماس و حيوية و إخلاص…كانت قيادة الأمور بيد فارس و مهندس ذلك الاحتفال السيد محمد المصطفى ولد الشيخ محمدو (وهو من أبرز كوادر لبراكنه والوطن عموما)، حفظه الله.
قام بتشكيل فريق من 12 تلميذا؛ وكان لي الشرف أنْ أكون عُضوا في ذلك الفريق …وبعد أسبوعين من التدريب المكثّف ، حضرنا يوم 28 نوفمبر 1960 على الساعة 8 صباحا في زيّ موحّد وأنيق، وأخذنا مكاننا أمام مبنى إدارة الثانوية الوحيدة في البلاد، وسط صفوف التلاميذ. بدأ رفع العلم الوطني في جو منقطع النظير، ثم أعطانا المصطفى اشارة البدء. قام فريقنا بتلحين نشيدين . الأول بعنوان :”تعالوا حان الوفاء شباب موريتانيا”.. ونسيتُ كلماته مع الأسف. والثاني:
“إلى العلا إلى العلا،
إلى العلا بنى الوطن،
إلى العلا كل فتاة و فتى،
إلى العلا فى كل جيل و زمن
فلن يموت مجدنا، كلا، و لن”.
ثُمّ صعد المصطفى على منصة كبيرة أعدّت للمناسبة، و ألقى كلمته وسط تصفيق حار و هتافات الحاضرين.
و بعد انتهاء الحفل ، غادرنا مُسرعين باتجاه المدينة. كانت الأجواء احتفالية.. ازدانت الشوارع بأعلام وطنية خضراء يتوسطها نجم وهلال ذهبي. وخرجت المدينة عن بكرة أبيها. واصطف السكان على جنبات ملعب كرة القدم الذي أعدّ بالمناسبة ليكون ملعبا أولومبيا كاملا. و فمُ الناس تبسم وفرح وغناء. مرّ من أمامنا موكب العمدة “صمب ولد اسنيح” (رحمه الله) محمول على عربة يجرها 4 خيول بيضاء “أصيلة”. لن أنسى مرور ذلك الفارس العظيم . كان طويل القامة (دون 2 ميتر بقليل)، أنيقًا، يرتدي “دراعة” و”فوقيّة” بيضاء ويلوح بيديه للحشود وهو شامخ كالجبل. ارتفعت الهتافات من كل جهة ومكان: SAW، SAW ، SAW وسط الزغاريد وشد الطبول والرقص البديع. وصل العمدة منصة الشرف المطلة على الملعب وأخذ مكانه بوقار و احترام. وبعده بدقائق وصل “الحاكم” على سيارة “جيب” عسكرية. وكان يرتدي قميصًا من “كاكِي” قصير الأكمام وسروالًا أسود طويلا.. أدّت له فرقة من الجيش الوطني تحية الشرف قبل أن يأخذ مكانه معلنا عن انطلاق نهائيات ما يشبه ألعاب أولمبية محلية.