هل جاءت عمليّة تدمير “جسر القِرم” هديّةً للرئيس بوتين بمُناسبة عيد ميلاده السّبعين؟ وما هي احتِمالات الرّد الروسي الثلاثة عليها؟ وماذا يعني تغيير قائد القوّات الروسيّة في أوكرانيا الخبير في حُروب العِصابات وآخِرها في سورية؟
10 أكتوبر، 2022
عبد الباري عطوان
لا نعرف ما هي الدّوافع وراء خُروج أوكرانيا عن قواعد الاشتباك المُتّبعة مُنذ بداية حربها مع الرّوس قبل ثمانية أشهر، ولُجوئها إلى تكثيف “حرب العِصابات” بإرسالها شاحنةً مُفخّخة لتدمير جسر القِرم الذي يربط بين شبه الجزيرة التي استَعادتها موسكو عام 2016، واليابسة الروسيّة، ويمتدّ حواليّ تسعة كيلومترات فوق البحر، وكَلّف بناؤه الخزينة الروسيّة ما يَقرُب المِليار دولار، وبعد أيّامٍ قليلة من تفجيرِ خطّ أنابيب غاز “نورد ستريم” الاستِفزازي.
الأهم من ذلك حال الاحتِفال بهذه العمليّة التي وصفتها المُتحدّثة باسم الخارجيّة الروسيّة ماريا زخاروفا بـ”الإرهابيّة”، والسّخرية من الرئيس فلاديمير بوتين، باعتِبارها “هديّةً” له في عيد مِيلاده السّبعين الذي تصادف يوم أمس الجمعة، وبثّ أغنية مارلين مونروا “عيد ميلاد سعيد سيّدي الرئيس” عدّة مرّات، وإصدار طابع بريدي تخليدًا لها.
صحيح أن الأضرار التي وقعت بالجسر من خلال تفجير الشّاحنة المُفخّخة بمُسيّرةٍ من الجوّ، وأثناء مُرور قطار مُحَمّل بصهاريج الوقود (احتَرق سبعة منها) جاءت مُتوسّطة عطّلت مَمَرًّا واحِدًا، ويحتاج إصلاحه وعودته إلى الخدمة حواليّ شهرين، لكنّ هذا التّفجير لن يُؤثّر على الإمدادات العسكريّة الروسيّة بسبب عدم تأثّر خطّ السّكك الحديدي المُوازي الذي يُستَخدم لنقلها، علاوةً أنّ القوّات الروسيّة، وحسب البيانات الرسميّة، تملك مَخزونًا يكفيها ثلاثة أشهر.
الجميع الآن في انتظار كيفيّة الرّد الروسي على هذه العمليّة الأوكرانيّة المُفاجئة، التي جاءت في وقتٍ تتّسع فيه دائرة الانتِكاسات العسكريّة الروسيّة، ممّا أدّى إلى عزْل قائد الجيش الروسي في أوكرانيا وتعيين الجِنرال سيرغي سوروفيكني الذي يملك خبرةً قتاليّةً عاليةً في ميادين حرب العِصابات في طاجيكستان، خِلال التّسعينات، وفي الشّيشان مطلع الألفيّة الحاليّة، وقادَ قوّات التدخّل الروسي في سورية، ممّا يعني أن الرئيس بوتين يُخَطِّط لتوسيع دائرة هذه الحرب، وتغيير مسارها التّقليدي المُتّبع مُنذ بدايتها قبل ثماني أشهر.
هُناك ثلاث احتِمالات يُمكن أن يلجأ إليها الرئيس بوتين للرّد على هذه العمليّة “الإرهابيّة” التي ألحقت ضَرَرًا كبيرًا بصُورته، وأثارت قلقًا بنقلها الحرب تدريجيًّا إلى العُمُق الروسي، وضرب البُنَى التحتيّة الاقتصاديّة الروسيّة:
الأول: تدمير قِطاعٍ كبير للبُنى التحتيّة الأوكرانيّة سواءً بعمليّاتٍ ميدانيّة أرضيّة، أو بقصفٍ جوّي بالصّواريخ والمُسيّرات، واستهداف الجُسور ومحطّات الكهرباء والمياه في العاصمة كييف والمُدُن الأُخرى، على اعتبار أن القِيادة الأوكرانيّة هي البادئة وأعفت القيادة الروسيّة من حَرَجٍ قانونيّ مُهم، وما يدعم هذه “النظريّة الافتراضيّة” تهديدات ميخالو بوديلاك مُستشار الرئيس زيلينسكي بتدمير كُل شيء غير قانوني، وإعادة كُل ما سرقته روسيا، وطرد القوّات الروسيّة من كُل الأراضي التي احتلّتها”.
الثاني: اللّجوء إلى حربِ العِصابات من خِلال تشكيل وحدات خاصّة مُؤهّلة ومُدرّبة بشَكلٍ جيد، ويُمكن الاستِفادة في هذا المِضمار بتجاربِ سورية ولبنان والعِراق وإيران واليمن.
الثالث: استخدام قنابل نوويّة تكتيكيّة لوقف تقدّم قوّات الجيش الأوكراني خاصَّةً في الأقاليم الأربعة التي جرى ضمّها إلى روسيا مُؤَخَّرًا، وخاصَّةً إقليميّ خيرسون ودونتسك.
الاحتِمالان الأوّل والثاني، أيّ اللّجوء إلى حرب العِصابات، وقصف البُنَى التحتيّة الأوكرانيّة، غير مُستَبعَدين على الإطلاق، لكنّ الاحتِمال الثّالث، أيّ اللّجوء إلى القنابل النوويّة التكتيكيّة غير وارد في الوقتِ الرّاهن على الأقل، ولن يُستَخدم إلا كخِيارٍ أخير، وبعد إلحاق هزائم ميدانيّة كبيرة بالقوّات الروسيّة، وخسارة الرئيس بوتين الحرب التقليديّة الدّائرة حاليًّا، وحُدوث تمرّد داخلي ضدّ قِيادته بسبب إدارته للحرب.
سيرغي لافروف وزير الخارجيّة الروسي لمّح إلى طبيعة الرّد الروسي الحتميّ على عمليّة الجسْر “الاستفزازيّة” التي نقلت الحرب إلى مرحلةٍ جديدةٍ بقوله “صبْر موسكو في وجْه أعمال العُدوان الاقتصاديّة له حُدود”، مُؤكَّدًا أنّ بلاده “ستَستخدِم كُل الإمكانيّات المُتوفّرة لديها لحِماية مصالحها الوطنيّة إذا لَزِمَ الأمْر”.
الرئيس بوتين يُراهِن على النّفس الطّويل، وعدم التسرّع في الإقدام على خطواتٍ ربّما تُعطي نتائج عكسيّة، مثلما يُراهِن على الانهِيار الاقتصادي وأزَماته المُحتَملة في أوروبا وأمريكا، ويتّضح ذلك بجَلاءٍ بقول لافروف مُهندس السّياسة الخارجيّة الروسيّة “كُل ما أرادوا إثارته في بلادنا يبْدأ في الظّهور في عُقْر دارهم.. ارتفاعٌ فاحِش في الأسعار.. انخفاضٌ في المداخيل.. ونقص الطّاقة”، ولعلّ القرار الذي اتّخذته منظومة “أوبك بلس” بخفض الإنتاج النّفطي بمِقدارِ مِليونيّ برميل يوميًّا سيُعزّز هذا الرّهان وسيزيد فُرص نجاحه.
خسارة أمريكا للحرب الأوكرانيّة تتأكّد يومًا بعد آخَر، والخُروج عن قواعد الاشتِباك التقليديّة بتحريضِ الرئيس زيلينسكي وجيشه على تفجير جسر القِرم، ربّما يكون أحد علامات الفشَل واليَأس، وليس القوّة والانتِصار بالتّالي، وهذه الخطوة ربّما جاءت “هديّةً” كُبرى للرئيس بوتين في عيد ميلاده السّبعين فِعلًا لأنّها قد تُعفيه من أيّ لوْم في حالةِ ردِّ قوّاته بالمِثْل، وتوسيع دائرة الحرب بضَرب البُنَى التحتيّة الأوكرانيّة وتدميرها ليس في كييف فقط، وإنّما في مُختلف المُدُن الأُخرى، فهذه العمليّة “الإرهابيّة” جاءت تجاوزًا لكُلّ الخُطوط الحُمر.. والأيّام بيننا.