حول الأوضاع المتفاقمة في مالي ، وما المتاح لموريتانيا القيام به / امهادي الناجي محمد الأمين

أصبح الوضع في الجارة مالي على درجة من التعقيد ، لم يسبق لها مثيل في تاريخ هذه الدولة الحافل بالأزمات منذ نشأتها . فلم تتراجع رقعة السيطرة الجغرافية للحكومة المركزية يوما ، بقدرما تراجعت الآن .

فمن الناحية العملية لم تعد الدولة المركزية في مالي تسيطر بشكل جيد على أكثر من حدود محافظة باماكو. حيث يعيث المسلحون ضربا حيثما شاؤوا . من الشمال المالي إلى الطريق الرابط بين باماكو وولاية “ابواكي” الإفوارية جنوبا . هذا طبعا مرورا بالمجال الرابط بين “باماكو” والسنغال ومورتانيا غربا ، فقد دمرت جبهة ماسينا الأسبوع الماضي معدات شركة صينية بأكملها ، كانت تعمل على ذلك المحور، معلنة رسالة واضحة إلى شركاء الحكومة، تفيد أنها ليست في  وضع جيد لاستقبال شركاء دوليين لتحسين حالة بنيتها الطرقية مثلا .

وعلى الرغم من هذا الوضع الحرج ، فإن الحكام في مالي ، لايقدرون هذه الوضعية حق تقديرها ، بل إنهم يبالغون في خلق أزمات دبلوماسية متزامنة تهيئ الظرف المناسب للمسلحين بمختلف أطيافهم أن يضربوا في مختلف جهات البلد حيث شاؤوا ، وأن يكسبوا مزيدا من الدعم الخارجي دون عناء ، فقد تم طرد القواة الفرنسية والأممية والأمريكية (على علاتها) ، والتي كانت تساهم بشكل ما في الحفاظ على الدولة المركزية ، ولأسباب مختلفة طبعا يضيق المجال عن ذكرها ، لكنها كانت تتقاطع جملة في ضرورة الحفاظ على كيان الدولة . وعلى الرغم من تكلفة هذه الخطوة الباهظة والواضحة ، زاد الحكام الأمر تعقيدا حين أقدموا على استفزاز الجزائر وخلق أزمة أمنية معها هي في الحقيقة محض هدية قدمها الحكام العسكريون للجبهات المسلحة . وفي ظل هذا الجو المرتبك على أطراف حدودنا مع الجارة مالي ، فإن السؤال العريض الآن هو ، أين موريتانيا من هذه الأحداث التي بات من البديهي أنها في تفاقم متلاحق ؟. وفي الحقيقة لسنا في موقع إمكانية الإجابة على هذا السؤال بشكل دقيق . ولكني أعتقد أن أمام السلطات في موريتانيا وقت قصير جدا للقيام ببعض الإجراءات المتزامنة ، تفاديا لجر المنطقة نحومأساة أكثر تكلفة مما يتصور الكثيرون :

** المقاربة الأولى تكون وقائية : تحاول حكومتنا من خلالها التدخل مجددا من أجل مساعدة الحكام في باماكو على النزول من أعلى الشجرة ، ودفعهم للنظر في وضعهم الأسوء من السوء ، بعين عقلانية واقعية . هذه المبادرة الموريتناية يمكن أن تتم بالاعتماد على الاتحاد الإفريقي وبعض دول الخليج ، وبالتنسيق المباشر مع الجزا ئر والسنغال وساحل العاج . وينبغي أن تتمخض مشاورات سريعة عن مؤتمر دولي يعقد في المملكة السعودية مثلا ، تحضره دول الطوق الحدودي والسلطات الحاكمة في باماكو ومختلف الجبهات الميدانية ، والأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي وأمريكا . وأن توضع على الطاولة محاور قصيرة وصارمة ، على رأسها الوقف الفوري لإطلاق النار ، وتحديد مسطرة قصيرة الأجل ، لتشكيل حكومة توافقية  ، والدخول في مسار انتخابي متوسط الأجل لإعادة البلاد إلى وضع الشرعية .

أدرك جيدا أن هذه المقاربة تشبه الأماني أو التخيلات ، يالنظر إلى الأوضاع على الأرض . ولكنها في الحقيقة ممكنة ولا تتطلب أكثر من خطوة نزول حكام باماكو من أعلى الشجرة .

** المقاربة الموريتانية الثانية ، هي مقاربة استعداد ويقظة ، إذا لم نقل دفاعية . حيث أن رقعة الخطر على حدودنا تتسع بشكل متسارع ومخيف ، وتتجه غربا بوتيرة تزيد من صعوبة السيطرة والمواكبة على الجانب الموريتاني . إن افتتاح حكومة باماكو لقاعدة عسكرية في مدينة “انيورو” ، يبدو في الظاهر وكأنه خطوة جيدة لتأمين تلك المدينة الحدودية الأكثر تداخلا مع موريتانيا ، ولتأمين مسار خط الطريق إلى معبر كوكي الزمال . هذا من حيث المبدأ ، ولكن من حيث المآلات يعني وجود هذه القاعدة اتساع جبهة القتال غربا ، وبالنتيجة اتساع رقعة الخطر على المواطنين الموريتانية ، وستكون أول تماس لولاية موريتانية جديدة مع مخلفات وتعقيدات الحرب الأهلية في مالي ، هي ولاية الحوض الغربي ، وذلك حين انجرت الأزمة عمليا إلى حاضرة “انيورو” التي تمثل بعدا ديمغرافيا وروحيا لكلا البلدين ، عصي على الحدود ، ومن سابع المستحيلات السيطرة على الأحداث داخله لتلك الأسباب .إن وجود هذه القاعدة العسكرية ، يعني ارتفاع مستوى الحساسية والعدوانية لدى العساكر الماليين وحلفائهم . وسبق أن ذكرنا في أكثرمن مناسبة سابقة أن الجنود في ميدان المعركة ليسوا سلطة تحقيق ولاوقت لديهم لتحديد هوية الأشخاص المتشابهة في الشكل واللون واللغة والمعتقد والسكن ووسائل النقل والقرى والمزارع . الناس هناك متشابهة ، بل متطابقة في كل شيئ . والجنود الماليون مرعوبون ، ويقتلون كل شيئ خوفا ، وحلفاءهم يقثلون كل شيئ طمعا . هذا وضع متفاقم يلوح في الأفق ويزيد احتمال تعقده موسم الأمطار ، الذي هو موسم عزلة لغالبية المناطق في مالي ، والتي لم تكن في الأصل تحت السيطرة تماما .على السلطات الموريتانية أخذ هذا الوضع على محمل الجد ، وفتح حملة تحسيسية شاملة تستهدف توعية الرعايا في مناطق الخطر الجديدة ، بضرورة الانزياح السريع إلى الأراضي الموريتانية وأخذ مزيد من الحيطة والحذر . ثم رفع مؤشرات الخطر والجاهزية على مستوى تكل المنطقة .

حفظ بلادنا .

  

زر الذهاب إلى الأعلى