محاسبات كبرى(الحلقة 5)/ محمد محمود ولد بكار
كان المختار صريحا في تجاوز هذه النقطة التي هي مسألة الوحدة الوطنية، فقد كان خطاب ترشيحه لرئاسة الحكومة، 20 مايو 1957، حينما كانت القلوب صافية، أي قبل أن يدخل في التجاذبات المحلية، نداءً وطنيا وبابا مفتوحا للشراكة ولتعظيم جميع الأدوار: “لنبني جميعا الوطن الموريتاني”. كان من الصعب حينها تحديد سلم الأولويات في وقت ينبغي أن يظل كل شيء ضمن الأولوية. ومع ذلك كانت الوحدة الوطنية في مقدمة الأولويات بالنسبة له، وحافظ في ذلك المسعى على نسبة تفضيلية للزنوج تفوق 20% من المناصب العليا في الدولة في الغالب. رغم ذلك، فإن الحاكم الفرنسي يعتبرهم فقط 5%، ففي رسالة منه (أي حاكم موريتانيا في “إندرْ”، موجهة سنة 1957 لحاكم إفريقيا LAOF في داكار وموجودة في مركز الارشيف في سينلوي، طلب منه فيها توجيه إذاعة لمدة ساعة لموريتانيا، وتكون 95% من وقتها بالحسانية و5% باللهجات الافريقية، الولفية والبولاربة، التي تمثل 5% تقريبا.
كما لم يكن المختار ذا نزعة جهوية، فقد أحيط بأطر من كل أطراف موريتانيا أكثريتهم أصدقاء، إلا أن الطابع الجهوي بل و”البوتيليميتي” بشكل أدق ظل باديا للعيان من خلال قوة تركيزهم في “النظام” والحكومة والحزب وفي الدولة العميقة.
حاول المختار كثيرا تقليص “بَوْتَلِمِتْ الحُكم” حيث كانت الواجهة السياسية أو بالأصح قمرة القيادة مزدحمة بهم (رئيس الجمهورية، رئيس البرلمان، وزير الدفاع ،أحمد كلّيِ وزيرا … وإلى حدما مريم داداه المتنفذة في الحزب). ولعل إزاحة الرجلين القويين إلى جانبه من أهل بوتليميت (سليمان ولد الشيخ سيديا ومحمد ولد أحمد محمود) كانت ضمن عملية التشذيب تلك. في الواقع لم يكن ذلك الطابع الجهوي متعمدا، أو يمكن القول إن له مبررات موضوعية، فقد كان بابه ولد الشيخ سيديا، الذي ظل يختلف عن علماء بلدنا، مطلعا، وعلى درجة عالية من الوعي ومعرفة بعض العلوم الزائدة على علوم المدرسة المحظرية مثل علم الفلك والجغرافيا والتاريخ. وكان يطالع الجرائد ويتفوق على علماء المنطقة بعمق النظر، فقد لاحظ أن الفرنسيين متغلبون لا محالة، وتعامل معهم على أساس الهامش الديني الذي سيمنحون للمسلمين، ولذلك انفتح على التعليم العصري أو المدارس الفرنسية التي ظلت محرمة بفتوى الفقهاء على طول وعرض البلاد. وهكذا تم بناء مدرسة بتيليميت التي تم تحويلها من المذرذره سنة 1914 ثلاث سنوات بعد إنشائها كأول مدرسة في أرض البيظان على خلفية صفعة من أحد الطلاب (اعمر سالم ولد أحمد سالم ولد إبراهيم السالم) لمعلمة فرنسية حسب بعض الروايات. هذه المدرسة التي كانت في الحقيقة لأبناء الشيوخ والأسر الوازنة، تعلم فيها محمد فال ولد عمير والمختار ولد يحيى انجاي والمختار ولد حامدن والمعلم الذي درّس المختار ولد داداه بعد ذلك في بتلميت. وقد تحول الطلاب مع هذه المدرسة إلى بوتليمت، وأصبحت مدرسة بتلميت، لعدة سنوات، هي المدرسة الوحيدة التي يسجلفيها الناس من كل مكان. كما حُوّل بعد ذلك معهد بوتلميت إلى مؤسسة معترف بها تدرس الفرنسية. وبهذا أصبحت بوتليميت رافدا كبيرا لموظفي الدولة يوازي إندر وفرنسا. وهكذا يكون المرء “بوتليمتيا” حتى وهو من غير أهل بوتليميت، وهكذا أيضا أصبحت دفة الحكم تُحرك من طرف أهل بوتليميت بصفة عامة باستثناء النخبة الزنجية التي كانت موزعة بين أقدم مدرستين في البلد: مدرسة كيهيدي 1906 ومدرسة بوگى 1908 .
ثانيا أن العاصمة كانت في اترارزة: نفس المحيط الاجتماعي والقبلي والجغرافي الذي به قاعدة واسعة للتعليم وضمن نفس الفضاء الجغرافي والاجتماعي المترابط مع بوتيليميت .
وتبيانا للحقيقة، لم يملك المختار ميولا جهويا ،رغم تعرضه لحدثين سيكون لهما بكل تأكيد الأثر في النفس أو من المحتمل أن يخلقا شعورين متناقضين أو انطباعين متعاكسين في ميدانهما في مجال التوازن، الأول عندما عاد لأرض الوطن وهو يملك طموحا أو هو مهيأ بالأصح من طرف المستعمر لقيادة البلد. كان أول ما واجهه رفض عبد الله ولد الشيخ سيديا لترشيحه نائبا عن بوتليميت حيث كان ذلك ممر العبور الإجباري لمشواره السياسي الجديد، فقال عبدُ الله إن هناك مقعدان: مقعد لأهل الشيخ سيديّ ومقعد لبونَ مختار، وبالتالي لا يوجد مكان لشخص آخر. وكان ذلك الصد جارحا في بداية المشوار وأمام جميع الطيف السياسي، مما اضطرّ المختار للبحث عن مكان آخر للترشح، لأن ذلك الترشح كان وسيلته الوحيدة للانتخاب بعد ذلك وزيرا أولا، وهكذا ترشح المختار من شنقيط: محل محمد ولد المنير .
أما الشعور الثاني، فرغم أن الفرنسيين اكتشفوا شخصية المختار المتوازنة، فإن زيارة ديگول الاستثنائية وربما الفريدة من نوعها وتوجهه رأسا إلى شخص عبد الله ولد الشيخ سيديا في بتيليميت الذي لم يكن به مركز للإدارة الفرنسية، وقبل الإعلان عن نيته منح الاستقلال لإفريقيا ، كانت في الحقيقة خطوة من أعلى مستوى لرد الجميل لهذه الأسرة من طرف الفرنسيين. وكانت بشكل آخر زيارة لموريتانيا حيث استدعي لها أغلب الشيوخ والمشايخ، وتضمنت توكيدا للعناية أيضا وردا للجميل مرة أخرى للتشاور بشأن من سيحكم البلد بعد رحيل الادارة الفرنسية أو حتى قبل ذلك في فترة الحكم المحلي. وقد تحدث ديكول مع عبد الله على انفراد حول رأيه في من يمكن أن يختاروه لذلك. كان سليمان ولد الشيخ سيديا حاضرا إن لم يكن هو ترجمانهما. التفت إليه عبد الله وقال له “اتعود انت ظرك أسوَ إعليك فيه، يغير إحن ذيك إرواي الِّ ما نعرفُ ذاك الِّ لاهِ يترتب اعليها ما اندوروهَ”. وأشار عليه بالمختار ولد داداه، رغم أنه ليس الوحيد الحاصل على شهادة عليا، فقد كان محمد ولد مولود ولد داداه ثاني موريتاني يحصل على شهادة الباكالوريا سنة 1948 بعد راسين تورى، ومن ثم المختار ولد داداه سنة 1949 . وقد بقيت هذه المحادثات طي الكتمان إلا داخل أهل بتليميت، أو لم تتم إذاعتها بعد ذلك بصفة رسمية. وهكذا ربما يكون المختار قد ظل محشورا بين هذين الشعورين الممزوجين بالامتنان والامتعاض، مما يخلق لديه، إضافة لشخصيته المتوازنة، توازنا إضافيا إزاء اللاعبين الأساسيين في البلد، فلا يمكنه أيضا نسيان الامتنان لأهل آدرار وشنقيط بالأخص. ألا يمكن أن يكون ذلك واحدا من روافد العلاقة بأحمد ولد محمد صالح مع ما تقدم من رجاحة عقله ودوره المحوري إلى جانب المختار؟ !
ابتلع المختار أغلب التيارات السياسية بما في ذلك حركة الشباب التي كانت تطالب بالاستقلال (سيدي أحمد ولد الطائع، بمبه ولد يزيد، الشيخ ماء العينين اشبيه، يحيى ولد منكوس ،احمد بابه ولد أحمد مسك، بوياگي وهيبة…) الذين أسسوا النهضة، وكذلك الشخصيات الوازنة في حزب الوفاق وكتلة گورگول من أمثال صمبولي، والحضرامي ولدخطري. كانت الدولة، رغم جهود المختار للاستقلال بها عن التوجهات الفرنسية، ما تزال تسير في كنف التيارات السياسية المتناقضة وتأجيج المشاعر المتعارضة من طرف الفرنسيين خاصة السفارة الفرنسية في نواكشوط. ففي سنة 1965 ألقى محمذن ولد باباه، بوصفه أصغر المعلمين وكتقليد في مثل هذه المناسبات، خطابا بمناسبة عيد الاستقلال الفرنسي الذي كان حدثا كبيرا يحضره الرئيس، قال فيه: “إنه من غير المعقول أن تكون العربية في موريتانيا تدرس في المدارس كخيار مثل اللغات الأجنبية الفرنسية والاسبانية والانجليزية”. أغضب الخطاب السفير الفرنسي الذي لاحظ الحضورُ وقوفَه مع المختار وهو يودعه لوقت أطول من المعتاد دون أن تتجلي حقيقة تلك المحادثة إلا بعد سنوات إذ كشف المختار لمحمذن، بعد تعيينه له وزيرا للتعليم 1972 ، عن تلك المحادثة كهدية مع تعيينه حيث قال له إن السفير الفرنسي، في تلك الوقفة، طلب منه اعتقاله وطرده من الوظيفة بسبب خطابه، وكان رده، وفق لباقته، بأنه سينظر في الأمر …حينها، أي حين تلك الحادثة، كان مدير التعليم الابتدائي والثانوي فرنسيا، وكانت له علاقته وثيقة بمجموعة ال 19 .
الفرنسيون بصفة خاصة لا يهادنون في المسألة الثقافية أبدًا.
ظهرت مجموعة من المناشير بعد ذلك موغلة في الكراهية والتطرف ضد البيظان وتصفهم بالبرابرة الرعاة الهمج، وتوجت هذه المناشير بمنشور 19 المعروف بمفردات الكراهية والعنصرية. وقد وُوجهت هذه المناشير بمناشير مضادة من نقابة المعلمين العرب بنفس النبرة، وكذلك نقابة كتاب الضبط العدليين وغيرهم، وعلى إثر ذلك نشبت أحداث 1966 وتم سجن الجميع بمن فيهم شخصيات سامية: الشيخ ولد خطاري أمين عام لإحدى الوزارات، وعثمان ولد سيدي ميلة مدير في الضرائب، وبمبه ولد سيدي بادي رجل أعمال، ومكتب نقابة المعلمين العرب … لم يكن الأمر عدائيا بالنسبة للمساجين القوميين العرب، فقد طلبوا من إخوتهم الزنوج تدريسهم الفرنسية على أن يتعلموا منهم العربية، وكان رد “عزيز با”، رئيس محكمة الاستئناف والشخص الأول على لائحة 19 ، أنه لن يفعل ذلك لأنه ضد “الحرطنة “. وعندما أطلق سراح المجموعة، ذهب “عزيز با “من يومه للسينغال حيث تم اكتتابه كقاض وتعيينه رئيس محكمة لاحقا، ولم يعد إلى موريتانيا إلى اليوم . أفراد الادارة الذين قدموا كموظفين في مؤسسات الدولة الوليدة إلى انواكشوط، مع تحويل العاصمة 1957 من سينلوي، هم سينغاليون في الغالب، شكلوا اللبنة الأساسية لكل تلك المشاعر الموغلة في كراهية العربية. وكانوا الوسيلة الرئيسة للمخططات الفرنسية لزرع التفرقة في البلد، بعدما اندمجت مكونات الشعب وانصهرت في توجه واحد في مؤتمر آلاگ سنة 1958 ضد إدارة “موراغ” . الزنوج الموريتانيون سلميون بطبيعتهم وينتمون لنفس التاريخ الاجتماعي للمنطقة، ولهم نفس نظرة المختار ولد داداه التي لخصت معنى كلمة “البيظاني” التي تقابلها بالفرنسية كلمة “مور” حينما سأله سينغور الذي نعرف جميعا مشاعره حول المسألة الزنجية، فكان جواب المختار أن البيظاني “تعني البربري الذي يحمل الثقافة العربية والممزوج بقوة بالمزاج الزنجي”. من المؤكد أننا لا نتفق مع المختار في هذا التأصيل العرقي، أي أن الأصل هو البربر، لكن نتفق معه في الفهم في سياقه التاريخاني والبنية الثقافية والفكرية والحس والمشاعر المشتركة إزاء عناصر ثقافة البلد. وعلى كل حال، فقد استحسن سينغور ذلك الجواب وظل يردده. والحقيقة أن البيظان عجين من ثقافات وأعراق تعايشت على هذه الأرض ومرت بفترات سلم وحرب ظلت عابرة ولم تؤثر على جو السلم والأخوة.
في الحقيقة، لم ينسجم الشباب ولا القوة الحية في سياسة المختار، فلم تكن هناك عقيدة فكرية تلهب صدور الشباب باستثناء الموقف الصلب الذي أظهر فيه المختار قوة الشكيمة من القضايا الثلاث التي واجهته في بداية مشواره، وكانت غاية في الصعوبة بصفة عامة، والإحراج بالنسبة للقضية الثانية منها ، أما الأولى فهي مطالبة المغرب (دولة قوية قائمة منذ 400سنة ولها علاقة منذ أكثر من 100 عام مع الولايات المتحدة وعلاقات متميزة مع مصر والسعودية) بموريتانيا كجزء من أرضها. وقد حصل الموقف على دعم تلقائي من عبد الناصر الذي يريد الوحدة وضد تجزئة الوطن العربي وزيادة الكيانات القزمية، وهكذا واجهت موريتانيا رفضين بالاعتراف: واحدا من الأمم المتحدة والثاني من الجامعة العربية. وكانت فرنسا وحدها ضد هذه الدعوة بصفة قوية، كما كانت المغرب خاوية الوفاض من حيث الدعائم الموضوعية لهذه الدعوة (لم يكن لدى المغرب تاريخيا أي تأثير سياسيي على موريتانيا، ناهيك عن عدم وجود غفير ولا عملة ولا عامل ولا عَلم ولا دعاء في المنابر ولا أي روابط). وهكذا لم يمتد سلطان ملك المغرب إلى هذه الأرض. وقد استشهدت موريتانيا على لسان باحثها محمد ولد مولود ولد داداه باطلع محمد ولد امحمد شين أمير إدوعيش سنة 1781 التي يذكر فيها حدود موريتانيا شمالا إلى تخوم الصحراء الغربية تيرس الظّبْ:
گلب ميجكْ واگلب الغين……كالهم نجع اخلاص الدين(…).
أما القضية الثانية المحرجة فهي هجرة أمير اترارزة ووزراء من حكومة المختار وشخصيات أخرى وانضمامهم لأحمدو ولد حرمة في المغرب. كانت تلك ضربة قاسية خاصة أنها شكلت الدعم الوحيد الذي امتلكه المغرب في مطالبته بموريتانيا، فقد كانت هذه شخصيات وازنة سياسيا واجتماعيا (محمد فال ولد عمير امير اترارزة، والدّي ولد سيدي بابه وزير وشيخ اسماسيد، ومحمد المختار ولد اباه وزير وابن أسرة دينية مرموقة ومن ولايات مؤثرة في تاريخ البلد وحاضره). لم يكن الأمر بهذه البساطة، فقد شكل حدثا مبرما ضد المختار.
أما القضية الثالثة فهي الوضعية الأمنية المقلقة والغامضة في بعض جوانبها: اعمارة النعمة، وأطار وانواكشوط . هل كلها من فعل الجناح العسكري لهذا التيار الذي يستهدف الفرنسيين بصفة اساسية ، والبلد ما يزال بحاجة لهم في جميع المجالات؟. وهكذا كانت أولوية المختار هذا التحدي القاسي…
الإعلامي والمحلل السياسي محمد محمود ولد بكار